الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقلنا له: كأنك عرّضت بهذا الرجل، فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدًا حَرُورِيًا؛ فكان رأس الحُرورِيّة، واسمه مرداس.وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيد فتيان البَصرة إن لم يحُدِث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه.وقال لأيوب: هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن.وروي عن الشَّعْبِيّ أنه قال لداود الأزْدي وهو يُماريه: إنك لا تموت حتى تُكْوَى في رأسك، وكان كذلك.وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم من مَذْحِج فيهم الأشتر، فصعّد فيه النظر وصوّبه وقال: أيّهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث.فقال: ما له قاتله الله! إني لأرى للمسلمين منه يومًا عصيبًا؛ فكان منه في الفتنة ما كان.وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مَرّ بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان: يدخل أحدكم عليّ وفي عينيه أثر الزنى! فقال له أنس: أوَحْيًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق.ومثله كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.الثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي: إذا ثبت أن التوسم والتفرّس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرّس.وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جَرْيًا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيًا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءًا في الردّ عليه، كتبه لي بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح؛ فإن مدارك الأحكام معلومة شرعًا مدركة قطعًا وليست الفِراسة منها.{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)}قوله تعالى: {وَإِنَّهَا} يعني قرى قوم لوط.{لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} أي على طريق قومك يا محمد إلى الشام.{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لعبرة للمصّدقين.{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} يريد قوم شعيب، كانوا أصحاب غِياض ورياض وشجر مثمر.والأَيْكة: الغَيْضة، وهي جماعة الشجر، والجمع الأَيْك.ويروى أن شجرهم كان دَوْمًا وهو المُقْل.قال النابغة:
وقيل: الأيكة اسم القرية.وقيل اسم البلدة.وقال أبو عبيدة: الأيكة ولَيْكة مدينتهم، بمنزلة بكة من مكة.وتقدّم خبر شعيب وقومه.{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي بطريق واضح في نفسه، يعني مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة يعتبر بهما من يمرّ عليهما. اهـ. .قال الخازن: {وجاء أهل المدينة} يعني مدينة سدوم وهي مدينة قوم لوط {يستبشرون} يعني يبشر بعضهم بعضًا بأضياف لوط والاستبشار: إظهار الفرح والسرور، وذلك أن الملائكة لما نزلوا على لوط ظهر أمرهم في المدينة وقيل إن امرأته أخبرتهم بذلك، وكانوا شبانًا مردًا في غاية الحسن ونهاية الجمال فجاء قوم لوط إلى داره طمعًا منهم في ركوب الفاحشة {قال} يعني قال لوط لقومه {إن هؤلاء ضيفي} وحق على الرجل إكرام ضيفه {فلا تفضحون} يعني فيهم يقال فضحه يفضحه إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه {واتقوا الله} يعني خافوا الله في أمرهم {ولا تخزون} يعني ولا تخجلون {قالوا} يعني: قوم لوط الذين جاؤوا إليه {أولم ننهك عن العالمين} يعني أولم ننهك عن أن تضيف أحدًا من العالمين.وقيل: معناه أو لم ننهك أن تدخل الغرباء إلى بيتك، فانا نريد أن نركب منهم الفاحشة: وقيل: معناه ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من العالمين إذا قصدناه بالفاحشة.{قال} يعني لوط لقومه الذين قصدوا أضيافه {هؤلاء بناتي} أزوجكم إياهن إن أسلمتم فأتوا الحلال ودعوا الحرام وقيل: أراد بالبنات نساء قومه لأن النبي كالوالد لأمته {إن كنتم فاعلين} يعني ما آمركم به {لعمرك} إلخ.طاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: معناه وحياتك يا محمد وقال ما خلق الله نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته والعمر واحد وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وبقائه مدة حياته.قال النحويون: ارتفع لعمرك بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي فحذف الخبر لأن في الكلام دلالة عليه.{إنهم لفي سكرتهم} يعني في حيرتهم وضلالتهم وقيل غفلتهم {يعمهون} يعني يترددون متحيرين وقال قتادة: يلعبون {فأخذتهم الصيحة مشرقين} يعني حين أضاءت الشمس فكان ابتداء العذاب الذي نزل بهم وقت الصبح وتمامه وانتهاؤه حين أشرقت الشمس {فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} تقدم تفسيره في سورة هود {إن في ذلك} يعني الذي نزل بهم من العذاب {لآيات للمتوسمين} قال ابن عباس: للناظرين.وقال قتادة: للمعتبرين.وقال مقاتل: للمتفكرين.وقال مجاهد: للمتفرسين ويعضد هذا التأويل ما روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.الفراسة بالكسر اسم من قولك تفرست في فلان الخير.وهي على نوعين: أحدهما ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه فيعلمون بذلك أحوال الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الحدس والنظر والظن والتثبيت، والنوع الثاني ما يحصل بدلائل التجارب والخلق والأخلاق تعرف بذلك أحوال الناس أيضًا وللناس في علم الفراسة تصانيف قديمة وحديثه.قال الزجاج: حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتين في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته فالمتوسم الناظر في سمة الدلائل، تقول توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته {وإنها} يعني قرى قوم لوط {لبسبيل مقيم} يعني بطريق واضح.قال مجاهد: بطريق معلم ليس بخفي ولا زائل والمعنى: أن آثار ما أنزل الله بهذه القرى من عذابه وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يدثر ولم يخف، والذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون ذلك ويرون أثره {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من عذاب قوم لوط، وما أنزل بهم {لآية للمؤمنين} يعني المصدقين لما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} يعني كان أصحاب الأيكة وهي الغيضة، واللام في قوله لظالمين للتأكيد وهم قوم شعيب عليه السلام كانوا أصحاب غياض، وشجر ملتف وكان عامة شجرهم المقل وكانوا قومًا كافرين فبعث الله إليهم شعيبًا رسولًا فكذبوه فأهلكهم الله فهو قوله تعالى: {فانتقمنا منهم} يعني بالعذاب وذلك أن الله سبحانه وتعالى سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى أخذ بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث الله سبحانه وتعالى كالظلة فالتجؤوا إليها، واجتمعوا تحتها يلتمسون الروح فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم جميعًا {وإنهما} يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة {لبإمام مبين} يعني طريق واضح مستبين لمن مر بهما، وقيل: الضمير راجع إلى الأيكة ومدين لأن شعيبًا كان مبعوثًا إليهما وإنما سمي الطريق إمامًا لأنه يؤم ويتبع، ولأن المسافر يأتّم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. اهـ..قال أبو حيان: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)}الفضح والفضيحة مصدران لفضح يفضح، إذا أتى من أمر الإنسان ما يلزمه به العار، ويقال: فضحك الصبح، إذا تبين للناس.قال الشاعر:التوسم: تفعل من الوسم، هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها، يقال: توسم فيه الخير إذا رأى ميسم ذلك.وقال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال الشاعر: واتسم الرجل جعل لنفسه علامة يعرف بها، وتوسم الرجل طلب كلاء الوسمي.وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك.وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو غيره.{وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين}استبشارهم: فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط عليه السلام.والظاهر أنّ هذا المجيء ومحاورته مع قومه في حق أضيافه، وعرضه بناته عليهم، كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله، ولذلك سماهم ضيفان خوف الفضيحة، لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح.وقد جاء ذلك مرتبًا هكذا في هود، والواو لا ترتب.قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المجيء والمحاورة بعد علمه بهلاكهم، وخاور تلك المحاورة على جهة التكتم عنهم، والإملاء لهم، والتربص بهم انتهى.ونهاهم عن فضحهم إياه لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه.ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال، أو من الخزاية وهو الاستحياء.وفي قولهم: أو لم ننهك دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف، أو يجبر أحدًا، أو يدفع عنه، أو يمنع بينهم وبينه، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد.وكان هو صلى الله على نبينا وعليه يقوم بالنهي عن المنكر، والحجز بينهم وبين من تعرضوا له، فأوعدوه بأنه إنْ لم ينته أخرجوه.وتقدم الكلام في قوله: بناتي، ومعنى الإضافة في هود.وإن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله: كأنه قال إن فعلتم ما أقول، ولكم ما أظنكم تفعلون.وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم.واللام في لعمرك لام الابتداء، والكاف خطاب للوط عليه السلام، والتقدير: قالت الملائكة للوط لعمرك، وكنى عن الضلالة والغفلة بالسكرة أي: تحيرهم في غفلتهم، وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به من ترك البنين إلى البنات.وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور ابن عباس، وأبو الحوراء، وغيرهما.أقسم تعالى بحياته تكريمًا له.والعمر: بفتح العين وضمها البقاء، وألزموا الفتح القسم، ويجوز حذف اللام، وبذلك قرأ ابن عباس: {وعمرك.}وقال أبو الهيثم: لعمرك لدينك الذي يعمر، وأنشد: أي: عبادتك الله.وقال ابن الأعرابي: عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد.قال: ويقال تركت فلانًا يعمر ربه أي يعبده، فعلى هذا لعمرك لعبادتك.وقال الزجاج: ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بلعمرى ولعمرك فلزموا الأخف، وارتفاعه بالابتداء، والخبر محذوف أي: ما أقسم به.وقال بعض أصحاب المعاني: لا يجوز أن يضاف إلى الله، لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال: هو أزلي، وكأنه يوهم أنّ العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع، وليس كذلك العمر، والعمر البقاء.قال الشاعر: وقال الأعشى: وكره النخعي أن يقال: لعمري، لأنه حلف بحياة المقسم.وقال النابغة: والضمير في سكرتهم عائد على قوم لوط، وقال الطبري: لقريش، وهذا مروي عن ابن عباس.قال: ما خلق الله نفسًا أكرم على الله من محمد قال له: وحياتك إنهم أي قومك من قريش لفي سكرتهم أي ضلالهم، وجهلهم يعمهون يتردّدن.قال ابن عطية: وهذا بعيد لانقطاعه مما قبله وما بعده.وقرأ الأشهب: سكرتهم بضم السين، وابن أبي عبلة: سكراتهم بالجمع، والأعمش: سكرهم بغير تاء، وأبو عمرو في رواية الجهضمي: أنهم بفتح همزة أنهم.والصيحة: صبحة الهلاك.وقيل: صوت جبريل عليه السلام.وقال ابن عطية: هي صيحة الوحشة، وليست كصيحة ثمود مشرقين: داخلين في الشروق، وهو بزوغ الشمس.وقيل: أول العذاب كان عند الصبح، وامتد إلى شروق الشمس، فكأنه تمام الهلاك عند ذلك.والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدّمة الذكر.وقال الزمخشري: لقرى قوم لوط، ولم يتقدم لفظ القرى.وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين، للمتفكرين.وقال الضحاك: للناظرين.قال الشاعر: وقال أبو عبيدة: للمتبصرين.وقال قتادة: للمعتبرين.وروي نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال: لأهل الصلاح والخير، والضمير في وأنها عائد على المدينة المهلكة أي: أنها لبطريق ظاهر بين للمعتبر قاله: مجاهد، وقتادة، وابن زيد.قيل: ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة.وقوله: لبسبيل أي ممر ثابت، وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس.وهو تنبيه لقريش، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل.وقيل: عائد على الصيحة أي: وإنّ الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله: وما هي من الظالمين ببعيد.
|